النقد المسرحي بين سلطة النص وهيمنة الكتابة الثانية

تتجاذب إشكالية الإبداع والنقد عدة أطراف تتعاضد في أغلب الأحيان بالإكراه وبعيدا عن تلك العلاقة المثالية التي ينبغي أن تكون بينها. والسؤال الذي ينبغي طرحه إذا تعلق الأمر بالمسرح وهو الذي تنضوي ضمنه إبداعات مطردة، ومتباينة المنشأ والماهية، كيف تكون تلك العلاقة فيما بين المسرح والنقدباعتبار المسرح متبنيا لكل الفنون، بل لكونه أبا شرعيا لها، وناهيك عن طبيعته التي تتوئم بين المكتوب والحواري وبين المشاهد بلغاتها التي تسهم في صنع فرجته. فيا ترى كيف تكون علاقته بالنقد بوصفه إبداعا وآلية تأتي دوما بعدما يفرغ العرض المسرحي من ترتيب بيته الفرجوي ومن تلميع أثاثه مستعينا بمجال تقنوي غاية في التعقيد والتركيب.

مؤكد أن مهمة النقد عسيرة المخاض؛ وهو يرقب ذلك الصراع الأزلي بين صناع الفرجة المسرحية، وقد طال أمده مرة فيما بين الدراماتورج والمخرج، ومرة أخرى بين المخرج والسينوغراف بعد مقتل المؤلف. علما أن محور الصراع والتناحر مرده إلى معاينة نسبة الإبداع التي تسببت في نجاح هذا العرض أو ذاك.

علاقة النص بالنقد

 إذا تعلق الأمر بالنص المسرحي الذي جثم بثقله على العملية الإبداعية طويلا ولا يزال نسبيا، فإن مهمة النقد بهذه المرحلة لم تلق عنتا ولا نصبا في قراءته واستنطاقه، بالرغم من امتلاكه لسلطة حين يصبح مقروءا، تلك السلطة التي تحدد مرجعيته التي يستمد منها عنجهيته، وترتكز على اللغة أساسا له “بانتظامها ومدلولها على مستوى أنساق العلاقات داخل بنية النص الذي يستند في جوهره إلى نظم ومستويات متداخلة، تؤسس بناءً موحداً يحتاج إلى أدوات منهجية وقرائية تدخل فضاء المتن، لاختراق تلك البنية المتماسكة وتفكيك مستوياتها المتداخلة.وهذا المسعى يؤكد سلطة النص التي تتأسس من ذاته، ومن طريق انتظام اللغة داخله، بحيث تصبح اللغة سلطة من السلطات الأخرى في فضائه الذي يمتاز بالتقنوية.” علما أن النص يمتلك قدرة استيعاب ما هو براني وجعله جزءا منه يتصف بصفاته ويحمل دلالاته وإيحاءاته…علاقة النقد بهذه السلطة اللغوية التأسيسية علاقة الابن الشرعي بأمه الرؤوم حيث سلك مسلك النقد الأدبي مركزا على المعايير الدرامية والفنية لنظرية الدراما.

كما كانت علاقة النص المسرحي بالنقد صنوة لنقد باقي الأجناس الإبداعية فكان نقدا سياقيا يستدعي حضور آليات العلوم الإنسانية، وإن كان جله لم يخرج من دائرة النقد الانطباعي، حتى اتسمت تلك النقود بالرتابة والنمطية التي أودت به إلى المدرسية المقننة التي لا تشذ عن مساءلة الحوار والصراع والشخصيات وغيرها. ومن جهة أخرى كثيرا ما كان يُلجأ إلى تعدد قرائي، فتصبح قراءات تنجر عنها عدة خطابات هي نتاج المقاربات المنهجية والمعرفة الجمالية …يرى رولان بارطفي هذا الصدد أن القراءة هي مسار في فضاء النص من أجل إنتاج موضوع جديد هو النص…عندما تصير القراءة نقدا، أي النص يُنتج من جديد وفق رؤية القارئ، فيراهن على ميلاد نص إبداعي نقدي متى قوض الناقد تلك الرتابة التي علقت بالدراسات النقدية للمسرح العربي بالعصور التي تلت بزوغ نجمه متأخرا. وبالرغم من هذا الانزياح الجميل للنقد العربي، إلا أنه “ظل مرتبطا بمرجعية تقليدية أولا وبمرجعية حداثية ثانيا لذا ظل مترددا لا يغامر صوب العمل الإبداعي بحثا وتفسيرا وإنما متشبها ومتلبسا بطروحات مسبقة”.

النقد والكتابة الثانية

هذا عن علاقة النقد بالسلطة الأولى”النص”، أما علاقته بالكتابة الثانية، فإن سلطة هذه الصناعة التي تلوي رقاب الكثير من مهن العرض المسرحي، فإنها سلطة عتية وعصية عن الليّ والتطويع إلى غاية الآن نتيجة ذلك التداخل الذي يعتري الفنون المنضوية تحت لوائه. نلفي النقد حييا إزاء هذه السلطة المتجبرة فيبذل قصارى جهوده ليسائلها في مدى ترويضها لأطراف اللعبة الفرجوية، وبخاصة بعدما ضلع بعض النقاد الغربيين بل حتى العرب منهم في القفز إلى إعمال المناهج النقدية النسقية وفي مقدمتها السيميولوجيا أو علم الدلالة، الذي أسعفهم في استنطاق فضاء الخشبة الذي أضحى فضاء للعلامات الطلسمية التي ينبغي تفسيرها، وفك رموزها فيما بين دوال ومدلولات تنضح تعبيرية وجمالية أخاذة. يعمد النقاد إلى تبيان ذلك الحقل الدلالي فينشئون نصوصا نقدية كلها إبداع. تنشد تقريب أطراف تلك اللعبة المركبة من خلد وإدراك المتلقي. ومن بين هؤلاء النقاد تادوزكونتور وباتريس بافيس وكرستيان ميتز ورولان بارط وغيرهم.

رهان النقد المسرحي العربي

ماذا عن النقد العربي الذي أصبح أمام رهان شاهق، وهو الذي أضحى كإسفنجة تمتص كل ما يصلها من سوائل الغرب؟ فهل سيجد طريقه إلى إنصاف هذه السلطة الثانية المركبة في ظل المناهج النسقية التي أضحت ديدن النقد الغربي؟ وهل تمكن النقدمن تطويع آليات تلك المناهج في مساءلة العروض المسرحية العربية؟”إن “النقد العربي الحديث إلى حد الآن لم يبلغ مرحلة السؤال الذي يستشف كنه العمل الإبداعي فالنقد التساؤلي لا ريب يصل إلى نتيجة فعلية أو أنه على الأقل يثير الأسئلة تجاه ظاهرة ما ومن ثم يبحث عنها دون عقدة أو خوف أو وجل”.

 يسع القول إن “النقد عندنا لم يكن مشاكسا مثيرا لقضايا أدبية ونقدية تستحق أن تتصدر معرفته ونقده ومن ثم تأخر عن مسار تطور المشهد المسرحي العربي. ثم إن هناك سؤالا مفصليا آخر ينبغي طرحه في ظل ما تعرفه الساحة الإبداعية المسرحية العربية من تحولات وتغيرات مهولة،من خلال محاكاة صناع المشهد المسرحي العربي لما يطلعون عليه من تجارب في عالم التقانة والرقمنة الذي أضحى المسرح الغربي يجود بها حتى لا ينأى بصناعته الفنية عن متلقيه؛ وهو  هل استطاع النقد للمسرح العربي أن يستوعب التقنيات الحديثة من وسائطية وميديالوجيا ورقمنة أم لا؟؟؟ وهل تجاسر على مفرداتها مستنطقا لها ومفككا تركيبتها؟ ومفتقا أكمام جمالياتها، دون أن يغفل مدى خدمتها للعرض المسرحي؟ والسؤال الأخير أكثر الأسئلة المحيرة للنقاد، وبخاصة المبتدئين منهم؛ ذلك أن لا سنن ولا قواعد جاهزة يمكن لهؤلاء تسخيرها حتى يتسنى لهم معرفة مدى وظيفيتها أو إعمالها تزويقا وتنميقا وإدراكا لزمن العرض القانوني، فتصبح بهرجة دخيلة لا قيمة لها… !!!

الدكتورة مصطفى الزقاي جميلة، جامعة مرسلي عبد اللهولاية تيبازة

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *